لعلّه من المُفيد تکثيف النقاشات الهادئة حول مُجمل القضايا الحارة المُثارة في عالمنا اليوم حول ما هو خاضع لمنظومات الأديان السماوية أو مثيلاتها الوضعية..لأن من شأن ذلک أن يفتح کُوّة في الجدار السميک الذي ارتفع بين العالمين والمنظومتين بفعل انقطاع الحوار الندّي -الإيجابي بين الشرق والغرب..

موقف عصبوي:

والملاحظ أن سياسة الاستضعاف التي تمارسها الدول الکُبرى، تسعى إلى التطاول والاعتداء على حق کل الشعوب والدول في ممارسة حريتها الإنسانية في ممارسة اعتقاداتها وشعائرها الدينية..

ولکي يکون الکلام أوضح نأخذ مثلاً مُباشراً بوصفه شاهداً على الانتهاکات التي يتعرض لها المسلمون في العالم، وهو مسألة حجاب المرأة المُسلمة، هذا الالتزام الذي يتم التعامل معه باعتباره أمراً عاديّاً يتم اتخاذ القرارات الرسميّة والقانونية بشأنه في دول غربية مثل فرنسا أو مُتغرِّبة في قوانينها مثل ترکيا وتونس وکأنه أمر معزول عن دين وثقافة وتقاليد حياة، ويستسهل إصدار قوانين المنع بحق المرأة المُسلمة في ممارسة حريتها في ارتداء الزي الذي يتناسب مع انتماءها وعقيدتها، بحيث يُشکِّل المنع بذاته تعبيراً عن موقف عصبوي تتشفى به الدول ومنظماتها القضائية والحقوقية من المسلمين دون وجه حق..

أن أمراً من هذا القبيل يطاول منظومة القيم والتشريعات الإسلامية المعمول بها منذ فجر الإسلام إلى اليوم، وبالتالي فإن تناول هذه المسألة بالعنف المباشر أو الرمزي من قبل الآخرين هو بمثابة اعتداء على الإسلام نفسه لما يشکله الحجاب من مظهر يعکس الهوية الدينية والحضارية التي تنتمي إليها المرأة المسلمة، بل المسلمين جميعاً، وهذا ما لا تلتفت إليه الجهات القامعة أو المانعة للمرأة المُسلمة الملتزمة بما يفرضة واجبها الشرعي من ممارسة حريتها..

هذا عدا عن أن اختيار شکل اللباس في کل دول العالم هو شأن يجب النظر إليه من زاوية الحريات الشخصية وحقوق الإنسان التي کفلتها کل الشرائع الإنسانيّة في العالم، وبالتالي فإن الدفاع عن هذا الحق ليس مسۆولية إتباع الأديات فحسب بل هو مسۆولية کل المنظمات الدولية التي کفلت أنظمتها المعلنة والمعممة ممارسة مثل هذه الحقوق..

وقد يقول قائل أن مسألة الحجاب هي من المسائل المُتصلة اليوم بقضايا سياسية عالمية، فالحجاب يمنع من التواصل الطبيعي مع شرائح المجتمع وداخل مۆسساته، ويخلق بۆر ظلامية داخل المجتمعات المتنورة، وهذا ما لم يثبت بدليل على الإطلاق، بل بدليل التجربة والممارسة ثبت عکس هذا الادعاء، أما حجة أن البيئة التي ينتشر فيها الحجاب تکون موئلاً لنمو العصبيات والتطرف فهو قول مردود على أصحابه لأن المرأة المُسلمة المُلتزمة بالحجاب هي عُنصر فاعل ومُنتج في المجتمعات التي تتواجد فيها شرقيَّة کانت هذه المجتمعات أم غربيَّة، وإلا فکيف تُمنع المرأة المُحجبة من دخول المۆسسات العامة إذا کانت مُنعزلة عنها أصلاً، وهل يُمنع إنسان من دخول ميادين هو معزول عن التفاعل معها..فهذا الکلام هو غير ذات موضوع..

وإذا دخلنا إلى الموضوع من مداخل أخرى کالقول أن الدول أدرى بمصالحها وأن ارتداء المرأة للحجاب لا يدخل ضمن هذه المصالح بل يۆذيها، لاعتبارات تتعلق بالنمو المطرد لهذه الظاهرة في دول تبيح الحريّات العامة والخاصة..هذا القول ينمّ في أحسن أحواله عن أمرين الأول: يشکک في جديّة ادعاء هذه الدول أنها الرائدة في السماح بالحريّات العامة والخاصة استناداً لمبدأ احترام حقوق الإنسان، والثاني: يشکک في ادعاء هذه الدول القدرة على استيعاب ما هو مُختلف ومُغاير، وانها من الضعف إلى الحد الذي يُشکّل أي مظهر من مظاهر الحريّات الخاصة إلى جانب الحريّات العامة تهديداً لصورة المُجتمع الذي تلتقي فيه التنوعات الفکريّة والعقائديّة والحضاريّة، وهذا أمر مُستهجن من الزاوية الإنسانية العامة ولا نجد ما يُبرره في دول عريقة وقويّة ومُتماسکة مثل دول أوروبا وفرنسا تحديداً..

وإذا ما تدرجنا إلى دول شرقيّة لا تقّر هذا الحق للمرأة في بلادها کترکيا وتونس مثلاً، باعتبارها دولاً شرقيّة علمانية، فإن الأمر يُصبح أکثر سوءاً، لأنه يمثل اعتداءاً على حقوق الإنسان المُسلم في عقر داره.

نظرة نمطية:

في هذا النوع من المسائل أو القضايا يجب لحظ ثلاثة أمور، الأول هو مصالح الدول وهويتها، والثاني هو مصالح الشعوب وهويتها، والثالث هو القوانين الدولية المفترض أنها راعية للمصالح العامة للشعوب والدول على حدٍ سواء..

والسۆال الذي يُطرح هنا هل يضرّ الحجاب بمصالح الدول التي تعيش فيها المرأة المسلمة؟.. حتى الآن لم نجد من يقول بذلک، فلماذا تتعالى اليوم أصوات المنع؟

الأمر بنظرنا بسيط جداً وهو عائد إلى نظرة الغرب النمطيّة اتجاه العرب والمسلمين، ويندرج في سياق الحملات التي يشنّها الغرب على المسلمين عموماً، تحت ذرائع شتّى، بسنان الحراب تارةً وبالفکر العلمانوي الذي ينظّر لصراع الحضارات تارةً أخرى..

وفي هذا الحال قد نکون اليوم أمام مشکلة تفهّم وتفاهم وتواصل حضاري مأزوم، مما يستدعي تدشين ميثاق عالمي جديد يعيد تعريف الحريات وحدودها، ويعيد ترسيم الحدود الفاصلة بين مصالح الدول من جهة، ومصالح المنظومات الدينية والوضعية على حد سواء من جهة أخرى، وإذاک قد نکون بحاجة أيضاً إلى إنشاء منظمات حقوقية دولية جديدة تعيد النظر بما يُعمل به من قواعد للحريات وحقوق الإنسان في ضوء التحديدات والترسيمات الجديدة..فهل هذا هو المطلوب في القرن الواحد والعشرين؟!!

ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم:

من هنا نعود إلى ما يقوله علماء المسلمين الحريصون على العلاقات الإنسانية والحضارية بين شعوب ودول العالم، وأبرزها مقولات المرجع السيد محمد حسين فضل الله، أنه لا بدّ من إلزام أصحاب العقائد کافة بما ألزموا به أنفسهم، فالقول بالحريات العامة والخاصة کمبدأ عام يجب أن يُحترم على هذا الأساس، فلا يُستثنى منه قوم أو جماعة أو أتباع مذهب أو دين، سواء کان ذلک في الشرق أو الغرب، وأن المحاججات الساذجة من قبيل انه لماذا لا يُسمح للمرأة غير المُسلمة بأن تکون بدون حجاب في دول ومۆسسات العالم الإسلامي هو قول مجمل يتهاوى أمام حجم الوقائع المناقضة التي يزخر بها العالم الإسلامي مما يناقضها، وفي مطلق الأحوال فهو قول يخضع لنفس مبدأ "ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم" الذي أکد عليه سماحة السيد، فالمسلمون ملتزمون بزّي معين في بلادهم، ويجب على المرأة المُسلمة احترام هذا الزّي، وأن مبادرة المرأة غير المُلتزمة في المجتمعات التي تدين بالإسلام إلى ستر الرأس بالطريقة التي تراها مناسبة يعد نوع من أنواع الاحترام المقدّر والمقدِر للشعور العام لدى المسلمين، في مجتمعاتهم وبلدانهم، فهذا الأمر لا ينتقص من إنسانيتها لأنه يساويها بصورة المرأة الکاملة والمُکتملة في لباسها في مجتمعاتهم، ومع ذلک فالمبررات برمتها لا تمنح لمن لا يقرّ الحجاب حقاً للمرأة المُسلمة وواجباً عليها، مشروعية سن القوانين التعسفية التي تحول بينها وبين ممارسة ابسط حقوقها في ارتداء حجابها، لأن الحجاب في دول تبيح الحريات العامة والخاصة لا يضرّ بمصالح هذه الدول ولا يخدش حياء المجتمع المغاير الذي تعيش فيه ولا يهشّم صورته الإنسانية العامة، خاصة إذا علمنا انه لا يتعارض، بل ينسجم مع مبدأ الحريّة وحقوق الإنسان الذي تقرّه وتعترف به...