هناک منهجان رئيسيّان لمعرفة الله تبارک وتعالى؛ الأول هو النظر في آفاق الکون، والثاني هو التوغّل في أعماق النفس. فهذا الکون الرحيب بما فيه من مجرّات ضخمة يُعادَلْ في منهجيّة معرفة الله بهذه النفس البشريّة.
والسبب في ذلک أن نفس الإنسان هي أقرب شيء إليه، وفي هذه النفس آفاق لعلّها تکون في مستوى آفاق الکون. فهذه النفس التي يزعم الإنسان أنها مخلوق بسيط تنطوي على عالم کبير ينعکس فيها کما قيل:
أتزعـم أنّک جـرم صغيــر وفيک انطوى العالم الأکبـر؟
فعلى الرغم من أن جسم الإنسان يعتبر آية من آيات الله العظمى، إلاّ أن نفسه أعظم دلالة، وأقوى شهوداً.
والملاحظ أنّ القرآن الکريم عندما يحدّثنا عن الإنسان کإنسان، أو عن طبيعتـه الإنسانيـة فإنـه يستخـدم کلمـة (الإنسـان)، وعندمـا يحدّثنـا عنـه کمجموعة فانه يستعمل کلمة (الناس). أما عندما يتحدّث عنه بصفاته الخيّرة فانّه يعمد إلى استخدام کلمة (بشر) في کثير من الأحيان.
وهکذا؛ فان مراد القرآن من توظيف کلمة (الإنسان) هو التأکيد على الطبيعة الإنسانية، وفي هذا المجال يشير ربنا سبحانه وتعالى الى طبيعتين مهمّتين في الإنسان؛ أحدهما الحرص، والثانية اليأس. ونحن لو أمعنا النظر لاکتشفنا أنّ هاتين الحالتين تقفان على طرفي نقيض في نفس الإنسان.
والمعروف في هذا المجال أن حرص الإنسان لا يمکن أن ينتهي، فان ملک الأرض تراه يفکّر کيف يمتلک السماء. فالانسان يبقى حريصاً متطلعاً الى المزيد من متاع الحياة الدنيا حتّى يدفن تحت التراب. فالتراب وحده هو الذي يقطع طموحات الإنسان في الحياة الدنيا، ويحدّ من حرصه فيها.
وإلى هذه الحقيقة أشار القرآن الکريم في قوله: «لاَ يَسْأَمُ الإِنسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ» (فصلت/49). والمراد بالدعاء هنا هو طلب الخير، والبحث عن المزيد منه.
ومن جانب آخر؛ فانّ هذا الإنسان الذي لا تحدّ مطامحه وأطماعه، نراه عند مواجهة الشدائد والابتلاء بالمصائب سرعان ما يتحوّل الى کائن ضيّق الصدر، شديد اليأس، حتى تضيق الدنيا بما رحبت في عينيه. وقد بيّـن القرآن الکريم هذه الحقيقــة في قوله: «وَإِن مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ» (فصلت/49) أي أن هذه النفس التي کانت قبل لحظات تعيش الدنيا، نراها فجأة وقد ضاقت الدنيا بها لتعيش في سجن ضيّق.
وفي الحقيقة؛ فانّ اليأس والقنوط هما مثلان للضيق والانحسار، ودليلان على عجز الإنسان، وشدّة فاقتة. لأن الحرص يدلّ على الحاجة، وعدم الاستغناء؛ فأکبر الغنا وأعظمه هو غنا النفس، لأن الإنسان الذي يحرص في سبيل الحصول على المزيد من الدنيا يعيش الفقر الحاضر، لأن معنى الفقر هو التحسّس بالحاجة، والنفس الحريصة فقيرة لأنها تتحسّس بالحاجة، وتنتظر المزيد، والحاجة هي دليل المخلوقية، فالنفس إذن- هي مخلوق محتاج.
لماذا الحرص في نفس الإنسان؟
وهنا يتبادر الى الأذهان التساؤل التالي: لماذا جبلت النفس البشرية على الحرص من دون الکائنات الأخرى؟
للجواب على هذا السؤال نقول: إن النفس البشرية قد خلقت -منذ خلقت- لتجاور رب العزة، ولتکون جليسة لديه، وهذه النفس قد تخطئ الطريق، فنراها بدلاً من أن تتوجّه الى الله، وتمتلئ عزة وکرامة وسعادة وفلاحاً، تتّجه الى الدنيا؛ وهي کلّما اتجهت الى هذا الحطام، فانها لا تشبع مطلقاً، لأن الدنيا هي أساساً ليست مادة من شأنها أن تشبع النفس البشرية. في حين إنّ ساعة من الصلاة، والذکر، والتوجه الى الله جل وعلا، تعطي الإنسان الطمأنينة والراحة کما يقول الله تعالى: «أَلاَ بِذِکْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الرعد/28).
وعلى هذا الأساس؛ فان ذکر الله هو الذي يجعل القلب مطمئناً، أمّا الدنيا وما فيها فحتى لو حصل الإنسان عليها فانّه سوف لا يجد فيها الطمأنية والسکينة. ولذلک فان المؤمنين إنما بلغوا ما بلغوه من قمّة سامقة بتوجّههم إلى الله، وتعبّدهم، وتبتّلهم له. ونحن نقرأ في بعض الأدعية: "يـا جليس الذاکرين".([76]) فالذي يذکر الله سبحانه کأنما يجالسه، أفَلا يحبّ أحدنا أن يجالس ربّه، ويزوره، ويسمعه، ويتحدّث معه؟
إن الله تعالى يشير إلى هذه الحقيقة في قوله: «لاَ يَسْأَمُ الإِنسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ وَإِن مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ» (فصلت/49) وفي هذه الآية التفاتة لطيفـة، حيث يقول ربنا عـز وجـل: «وَإِن مَسَّهُ» أي إذا لامست الإنسان شهيق الشرّ فانّه يسقط مباشرة من قمّة الحرص الى وادي اليأس والقنوط.
آيات الله في النفس
ثم يتحدث القـرآن الکريم عن آيات الخالق في الکون، وآياتــه فـي النفـس. والصفـة السابقـة هي من آيات الله في النفس؛ فالنفس البشريــة -إذن- بحاجـة إلى بارئها، والى الاعتصام بحبلـه، لا أن تـجري وراء طبيعتهـا، وتنساق في تيّار جبلتها، فتجتاحها - مثلاً- النـزعة الى الربوبية؛ أي أن تصل الى مقام الربوبية، ومن أجل إقناع النفس بانّ هذه النـزعة مغلوطة، فلابدّ من أن نتوجّه الى حرصها من جهة، وإلى يأسها من جهة أخرى. فهذه النفس التي تحرص في يوم، وتيأس في يوم آخر، هي في الواقع تعتبر من جانب آخر دليلاً على الحالة الأولى للإنسان، فهو يمتلک حالتين؛ الحالة الأولى هي تلک الحالة التي تحدّثنا عنها، أما الحالة الثانوية التي يمکننا أن نسمّيها حالة التربية أو الحضارة أو حالة الإيمان، فإنّها تقع بالضبط في مقابل ذلک التوجّه.
وطبقاً لهذه الحالة؛ نرى الإنسان قنوعاً حتّى وإن لم يحصل إلاّ على قوت بسيط يقيم به أوده، ونراه إيجابياً متفائلاً وإن مرّت به أسوأ الظروف. وهذه النفس إنما وصلت إلى هذه القمّة من الإيجابية، والأمل، والحيوية بفضل الإيمان، والاتّصال بالله سبحانه وتعالى.
انتهای پیام
ملف المرفقات: