۱۳۹۳/۸/۲۳
2:3
زيارة:1201
القرأن
التربية منهجية إسلامية أم فرضيات علمية؟ |
|
التربية عملية متداخلة، إذ لا تأتي بثمارها المرجوة دون الاهتمام بعناصر أخرى مکملة لها، حيث أن سلوکياتنا اليومية لابد أن تستند لمنظومة أخلاقية تتناول الفلسفة التربوية وأهدافها وضوابطها، وتستمد منها الإرشاد والتوجيه في المواقف المختلفة. هذه العناصر تتمثل في "الکتاب" المعرف للقيم الإلهية النبيلة، و"الحکمة" المتمثلة في ممارسة وتطبيق هذه القيم على أرض الواقع، وهذا ما أشار إليه القرآن الکريم بوضوح في سورة البقرة بقوله تبارک وتعالى: (رَبَّنا وَابعَث فيهِم رَسولًا مِنهُم يَتلوا عَلَيهِم ءاي?تِکَ وَيُعَلِّمُهُمُ الکِت?بَ وَالحِکمَةَ وَيُزَکّيهِم ? إِنَّکَ أَنتَ العَزيزُ الحَکيمُ).
وکما أن التربية الاجتماعية مسألة مهمة وغاية سامية، حيث أنها المعرفة للنظام القيمي للمجتمع، فلا ينبغي أن يتولى مسؤوليتها من لم يغرس في نفسه الفضائل الخلقية، ففاقد الشيء لا يعطيه، سواءً کان في إطاره الأسري الخاص، قال الشاعر:
إذا کان رب البيت للدف ضارباً فشيمة أهل البيت هي الرقص
وسواءً إن کان في إطار المجتمع العام، فالمتصدي للتربية العامة يعجز عن التأثير الايجابي والتغيير عندما لا يعمل بإصلاح نفسه وتهذيبها، فقد جاء في الحديث النبوي الشريف: "إذا لم يعمل العالم بعلمه زلت موعظته عن القلوب".
وهکذا.. تکون التربية الصالحة هي الشجرة المنتجة للمنضبطين الصلحاء الملتزمين فکراً وعملاً بالقيم الربانية.
ولربما أثير في هذا الموضوع سؤال: أنه ورغم التطور الهائل في أساليب التربية وفنونها، وقناعة البعض قناعة تامة في استملاک القدرة على توجيه الميول والطبائع، حتى قال العالم النفساني واطسون مقولته الشهيرة في النظرية السلوکية الاشتراطية: "أعطوني عشرة أطفال أصحاء سليمي التکوين، وسأختار أياً منهم أو أحدهم عشوائياً، ثم أعلمه فأصنع منه ما أريد: طبيباً أو مهندساً أو محامياً أو فناناً أو تاجراً أو لصاً، وذلک بغض النظر عن مواهبه وميوله واتجاهاته وقدراته أو سلالة أسلافه." ومع فرض امکان ذلک، فلماذا يصر الإلهيون على ادخال العقيدة الدينية في التنشئة الاجتماعية؟
إن مثل هذا التساؤل يمکن مناقشته من عدة وجوه؛ فالدين لايزج بنفسه في تحديد الأساليب المستجدة في التربية والمختلفة من مجتمع لآخر، ومن عصر لآخر، بل إن هذه الأمور موکولة للبحث التربوي والاجتماعي الذي يزودنا بما يکتشفه من أساليب مستحدثة تتناسب ووضع المجتمع القائم، بينما تکمن أهمية التفکير الديني في بيان العوامل المؤثرة على التربية والسلوک إيجاباً وسلباً. فمثلاً، تحدثنا الآيات الشريفة عن أن من يعرض عن ذکر الله يصاب بضيق الصدر (وَمَن أَعرَضَ عَن ذِکرى فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنکًا وَنَحشُرُهُ يَومَ القِي?مَةِ أَعمى?)، ويقيض له شيطان يبث فيه الوسوسة: (وَمَن يَعشُ عَن ذِکرِالرَّحم?نِ نُقَيِّض لَهُ شَيط?نًا فَهُوَ لَهُ قَرينٌ)، ومن يفعل المعاصي يکن قلبه أسوداً يحول بينه وبين فعل الخير (ثُمَّ قَسَت قُلوبُکُممِن بَعدِ ذ?لِکَ فَهِىَ کَالحِجارَةِ أَو أَشَدُّ قَسوَةً ? وَإِنَّ مِنَ الحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنهُ الأَنه?رُ ? وَإِنَّ مِنها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخرُجُ مِنهُ الماءُ ? وَإِنَّ مِنها لَما يَهبِطُ مِن خَشيَةِ اللَّهِ ? وَمَا اللَّهُ بِغ?فِلٍ عَمّا تَعمَلونَ)، مضافاً إلى أثر بعض الممارسات الدينية في تيسير الهداية والرشاد کالصدقة والدعاء.. هذا حين الحديث عن الجوانب الروحية، وأما في الجوانب التکوينية فنجد التوجيهات الواضحة في منع الفاحشة کونها مصدراً رئيسياً لتکوين نطفة سيئة تجنح وتميل لفعل المعصية وتکون بذلک -عادةً- نقطة سوداء في صفحة المجتمع، واختيار التوقيت المناسب -المبارک- من أشهر و أيام السنة في عقد الزواج وانعقاد النطفة.
ويضاف إلى ذلک مجموعة کبيرة من التشريعات -واجبة أو مستحبة- الهادفة إلى المساهمة الفاعلة في خلق بيئة تربوية صالحة، کالأمر بمجاهدة النفس ومغالبة الشهوات، تشريع العبادات المهذبة للسلوک الفردي کالصلاة والصيام والزکاة والخمس، والأخرى الضابطة للسلوک الاجتماعي کالأمر بالمعروف والنهي عن المنکر.
بالتالي، لاعتبارات روحية وتکوينية وتشريعية، لا يمکن الحديث حول المسألة التربوية في مجتمعنا الإسلامي بمعزل عن الدين السماوي، وبالتالي فإن أي رؤية تربوية تنأى بنفسها عن الاستفادة من النصوص الدينية لهي -في أحسن الأحوال- رؤية نظرية ذات بعد واحد، تفتقر إلى نظرة شمولية يکون فيها الدين جزءاً لا يتجزأ من حياة اليومية للمجتمع، وهي بذلک تقدم رؤية أجنبية عن واقع المجتمع، ذو الخصائص المميزة له عن سائر المجتمعات الأخرى.
مضافاً إلى ما سبق، فإن النص الديني المتمثل في القرآن الکريم، هو نص ثابت قطعي التواتر، واضح وقطعي الدلالة ومتيسر للفهم، وإن سلمنا بوجود النص المتشابه فيه فإن ذلک يمثل الاستثناء لا القاعدة العامة، وهي مسألة يمکن حلها بإعمال بعض الأدوات الشرعية. بالتالي فإن أي نص تربوي قرآني يمثل حقيقة مطلقة، کذلک النصوص الحديثية ثابتة الصحة في المتن والسند. ونحن هنا لا نتکلم عن مجموعة محدودة من النصوص، بل نحن أمام مئات من الإشارات الحديثية والقرآنية التي تقع في نطاق النص التربوي. مع اعترافنا بقلة المحاولات الجادة في قراءة واستنطاق النصوص الدينية للخروج برؤية تربوية محکمة وشاملة.
وفي مقابل ذلک الثابت، البحوث التربوية العلمية القائمة بالدرجة الأولى على المنهج التجريبي -إضافة للمسح الميداني- والذي يثار عليه النقد من جهات عدة مثل صعوبة الحصول على نتائج دقيقة، وصعوبة تعميم هذه النتائج على المجتمع، صعوبة عزل العوامل المؤثرة، إضافة إلى أن التجريب يواجه -بطبيعته- صعوبات فنية وإدارية وأخلاقية.
وتلخيصاً لما سبق، أنه وبالتأکيد، لا يمکن المقارنة بين العلم الإلهي المطلق واللا محدود في النصوص القرآنية والحديثية المقدسة، وبين الفهم البشري المحدود المستخرج بالملاحظة والتجربة، والذي لا يعکس بالضرورة صورة حقيقية وواقعية عن ذوات الأشياء. بالتالي فإن التفکير التربوي العلمي -على ضرورته- لا ينبغي أن ينفک أبداً عن التأمل العميق في الوصف الإلهي للنفس (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)، وفي علاقة الإنسان بمن حوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاکُم مِّن ذَکَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاکُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاکُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).وأخلاقياًً.. فبداية تطلع الإنسان لفهم أفضل للمسألة التربوية تنطلق من وعيه التام بأنه محدود القدرة والمعرفة، وبأنه يعلم أن ما لا يعرفه أکثر بکثير مما يعرفه: (وَيَسْأَلُونَکَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)
سماحة الشيخ أحمد حسين الدبيسي
انتهای پیام |
|