۱۳۹۳/۸/۱۰   8:38  زيارة:1504     الاخبار

بسم الله الرحمن الرحیم
البعد التربوي لواقعة الطف

 


البعد التربوي لواقعة الطف

واقعة الطف.. الملحمة الخالدة، التي على الرغم من مرور أکثر من ألفِ عامٍ على حدوثها، ظلَّت طريَّة ومتجدِّدة، وکأنَّها قد حدثت للتو.. هذا ما تُؤکِّده جميع الکتابات التي تناولت هذه المأساة الإنسانية، سواءٌ تعاطت هذه الکتابات معها من الزاوية التاريخية أو الإنسانية أو الأخلاقية أو الأدبية أو غير ذلک من الزوايا.
وتعود هذه الظاهرة في واقعة الطف إلى عدِّة أسباب، أسهب فيها الباحثون والمؤرِّخون والکتَّاب؛ تأتي في مقدِّمتها بشاعة الحدث ومأساويته، وشمولية هذه الواقعة للعديد من الأبعاد الحياتية، وقيام الحالة الثورية على واقع الظلم والطغيان.
ولعلّ هذه الأسباب ـ وغيرها بطبيعة الحال ـ هي ما جعلت من واقعة الطف مثار اهتمام مختلف الشرائح والانتماءات الفکرية والعقائدية، فتحدَّث فيها: المسلم والمسيحي واليهودي وغيرهم، کما تحدَّث فيها: المؤرِّخ والمفکِّر والتربوي والباحث وعالم الدين وغيرهم.
فالأديب ـ مثلاً ـ رآها مصدر إثراء للشعر والنثر، ورآها المؤرِّخ نقطة تحوُّل في أحداث التاريخ وصراع القوميات، ورآها عالم الدين نقطة ارتکاز للعقيدة، ورفض للمعتقدات الشاذة واستغلال الدين لتحقيق المصالح والمکاسب الدنيوية والسياسية، ورآها عالم الاجتماع نقطة تمايز اجتماعي وانقسامات وتجمُّعات اجتماعية، ورآها السياسي مدرسة للتخطيط والتنظيم الإداري، ورآها العوام مبعثاً للطاقة والعزيمة في المطالبة بالحقوق والثورة على الظلم والالتزام بالمبادئ.. وهکذا.
واتفقت جميع هذه الشرائح والفئات، على أنّ واقعة الطف عبارة عن مأساة إنسانية حقيقية، حملت في طيَّاتها بُعدين اثنين . اتفق الجميع على الأول منهما، وهو: البعد العاطفي، فيما تباينوا في البعد الآخر، فالمؤرِّخ رآه بُعداً تاريخياً، وعالم الدين رآه بُعداً عقائدياً، والأديب رآه بُعداً أدبياً، والتربوي رآه بُعداً تربوياً..
وفي الواقع، لا يوجد أي تضارب بين جميع هذه الرؤى، فمأساة کربلاء کانت حدثاً شمولياً بکل معاني الکلمة، غير أنّ کل ذي اختصاص رآها من واقع اختصاصه، إلى جانب إنسانيته التي لم تترک له الخيار في اعتبارها مأساة إنسانية، أو بمعنى آخر: لم تتح له الفرصة لتجاهل البعد العاطفي في هذه المأساة . وفي تقديري الشخصي، فإنّ مثل هذا الاتجاه، ساهم في تعزيز الاستفادة من هذا الحدث التاريخي الإنساني في جميع المجالات الحياتية، أي أنّه اتجاه إيجابي، وليس سلبياً على الإطلاق.
وعلى الرغم من إدراک العديد من الفعاليات الدينية والفکرية لهذا الأمر، إلاَّ أنَّنا لا نزال نعيش واقع افتقار المکتبة الإسلامية والتربوية للإصدارات، التي تستخرج الدروس التربوية والأخلاقية من بين ثنايا هذه الواقعة، وتصوغها في قوالب تتماشى والذهنية العامة، وتتناسب ولغة العصر الذي نعيش فيه ؛ لتعمل من خلالها على بناء النفس الإنسانية بناءً سليماً بعيداً عن الاعتلال، سعياً وراء خَلْق مجتمع يسمو بذاته وکيانه، ويحتفظ لنفسه بهوية تُميَّزه عن باقي المجتمعات الإنسانية.
إنّ هذا الإرث الضخم الذي خلَّفه لنا الحسين وأهل بيته وأصحابه (عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأزکى السلام)، وسطَّروا صفحاته بدمائهم الزکيَّة الطاهرة، ليس مجرَّد إرث تاريخي، وليس مجرَّد إرث أدبي، وليس مجرَّد إرث ديني، وإنّما هو إرث تربوي بالدرجة الأولى ... وهذا يعني أنّ واقعة کربلاء هي في الواقع مدرسة تربوية، لا تنحصر في دينٍ أو مذهبٍ أو تيارٍ مُعيَّن، فهي مَعينٌ تنهل منه النفس البشرية بغض النظر عن انتمائها ؛ لأنّ فيه ما يسمو بهذه النفس باعتبارها نفساً إنسانية، لا باعتبارها نفساً إسلامية.
وهذا المعنى يمکن أن نستقيه من قوله (عليه السلام) وهو يخاطب جيشاً عرمرم، اجتمع من کل حدبٍ وصوبٍ لقتله أو إذلاله:
أيُّها الناس، إن لم يکن لکم دين، فکونوا أحراراً في دنياکم
هذه العمومية في خطاب الحسين (عليه السلام)، وکذلک هي الحال في ما اشتملت عليه هذه الواقعة من خُطبٍ وعباراتٍ وحواراتٍ، تُدلِّل ـ بما لا يترک مجالاً للشک ـ على عمومية ثورة الحسين (عليه السلام)، وبالتالي عمومية الخطاب الوجداني في هذه الثورة الخالدة . فإذا ما سلَّمنا بهذه العمومية، توجَّب علينا أن نُسلِّم بضرورة استقصاء الدروس التربوية، والقيم الفاضلة التي تضمَّنتها ثورة الحسين، وليس فقط حادثة يوم العاشر من المحرم، بما يُسهم في تعزيز حالة السمو النفسي على المستويين الفردي والاجتماعي . ولتحقيق ذلک، فإنَّه لابد من البدء في الحصر النوعي لهذا التراث التربوي والأخلاقي، ومن ثمَّ إعادة صياغته في عدة قوالب، يتم توجيهها لمختلف الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية، بدءاً بالطفل وانتهاءً بالشيخ والعجوز.
وفي إطار هذا العمل، فإنّه لابد من الترکيز على مرحلة الطفولة ؛ على اعتبارها مرحلة التأسيس والبناء . وهذا يقتضي بالضرورة الالتفات إلى عدة أمور، أبرزها :
ـ التدرُّج في مستويات العرض: بحيث يتم الانتقال من البساطة إلى التعقيد، ومن العمومية إلى التحديد، ومن الإطلاق إلى التخصيص، بشکل تدريجي ومُنظَّم.
ـ البرمجة والتنظيم، بحيث تصب الجهود المتفرِّقة في إطارٍ واحد.
ـ تناسب العرض مع سن الطفل.
ـ إشراک الطفل في عملية الصياغة أو التنفيذ.
ـ الابتعاد عن الأساليب التقليدية في التعليم والتوجيه، والتي تعتمد بالأساس على التلقين الجامد، واستبدالها بالأساليب التي تجعل من المُتلقِّي مَرکزاً للتعلُّم، فيما يتحوَّل المربي والمعلم أو الخطيب إلى مُحفِّز للعملية التعليمية.
ـ استثمار الطبيعة التکوينية للطفل والغرائز النشطة لديه، کحب الاستطلاع والاستکشاف، والفضول، والرغبة في إثبات الذات.. وغيرها، في ترسيخ القيم الأخلاقية ونتاج الدروس التربوية لواقعة الطف في نفس الطفل، وتوطيد علاقته بها، بدل تحويلها إلى مجرد حادثة مأساوية أليمة، وذلک من خلال إشراکه في العمل على اختلاف مستوياته ومراحله.
ـ توظيف الصورة والنص من خلال المسرحة الجزئية لأحداث کربلاء، مسرحةٌ تربوية، وليس مسرحةً تاريخية .
ويمکن تحقيق ذلک من خلال الترکيز على جزئيات من الصورة الکلية، عوضاً عن السرد التاريخي للحدث . فعلى سبيل المثال لا الحصر: من خلال استعراض سيرة بعض شخصيات کربلاء ـ کرقية بنت الحسين مثلاً ـ وبيان طبيعة ونوعية العلاقة بينها وأبويها، والمحيطين بها من أقارب وأصحاب، وما تتحلَّى به من خُلقٍ رفيعٍ، يمکن خَلق صورة نموذجية للطفل، وإيجاد القدوة التي يمکن أن يرى الطفل من خلالها رأي العين، الصورة المثلى التي ينبغي أن يکون عليها.
ـ تفعيل الآثار الإيجابية لواقعة کربلاء من خلال إبراز الشخصيات القدوة على السطح، لتبدأ شخصية "رقية" و "القاسم" مثلاً في الحلول محل "سوبرمان" و"ساندي بل"، وغيرها من الشخصيات التي لا نکاد نجد طفلاً لا يحفظ قصصهم عن ظهر قلب . وليبدأ الطفل في التعلُّق بالصلاة وإظهار الاحترام والتعفُّف، تشبُّهاً برقية والقاسم، بدل وضع عباءة على ظهره والصعود إلى سطح المنزل، ليلقي بنفسه من أعلى في محاولة لتقليد سوبرمان الطائر، أو القفز کسوبر ماريو..
ـ کما ينبغي أيضاً، الالتفات إلى ضرورة إشراک التربويين والمختصين في إعداد وتنفيذ العمل، سواء کان هذا العمل مسرحية أو قصة أو کتاباً أو عملاً سينمائياً.
فلا يکفي في اعتقادنا أن يقوم کاتب قصصي مثلاً ـ مهما کانت براعته في الکتابة ودرجة إتقانه لهذا الفن ـ بکتابة قصة کربلائية، دون الاستعانة بأحد التربويين . کما لا يکفي أن يقوم التربوي بهذا العمل بصورة مفردة . فالکاتب القصصي سيکون حتماً حريصاً أشد الحرص على ما يُصطلح عليه البعض بـ"الحبکة الدرامية" و "الترابط القصصي" و "تسلسل الأحداث"، وهذا أمر مطلوب، بينما قد لا يتمکَّن هذا الکاتب من تحديد الأهداف والدروس التربوية الواجب الترکيز عليها في العرض، ممَّا يضفي الطابع القصصي على العمل، فيما يغيب عنه البعد التربوي.
وفي المقابل، قد يستطيع التربوي تحديد هذه الدروس، غير أنَّه لا يکون بالضرورة قادراً على صياغتها في قالب يناسب الطفل، ويرغِّبه في العرض بحيث تتغلغل تأثيرات أحداث تلک القصة في نفس الطفل، فتُترجم إلى سلوک واقعي لدى الطفل.
فالمطلوب إذن، هو التحوُّل من العمل الفردي إلى العمل الجماعي، الذي يکفل تحقيق الهدف العام من هذا العمل، قصةً کان أو مسرحية أو غير ذلک.
ولتحقيق ذلک، فإنَّه لابد من العمل على تطوير أداء المنبر الحسيني، بحيث يتحوَّل من الترکيز على العاطفة، إلى الترکيز على استخراج العِبر والدروس، وعرضها في قوالب منطقية، تشتمل على عنصر الإثارة والتأثير في ذات الوقت ؛ ممَّا سيکون له الأثر البارز في تسخير الطاقات الفردية لإنجاز عمل جماعي متميِّز.
إنَّنا اليوم في أمس الحاجة للبدء الفوري في هذا الاتجاه، الذي تأخَّرنا فيه کثيراً . لنبدأ فعلياً في إزالة تلک الترسُّبات السلبية في نفوس أبنائنا، وملء تلک الفراغات بالقيم الأخلاقية الفاضلة، بما يخلق في ذات الفرد حاجزاً منيعاً، وحافزاً قوياً، لمواجهة ما يتهدَّد مجتمعاتنا من مخاطر أخلاقية، وانحلال أخلاقي، وابتعاد عن القيم الإنسانية، التي کانت المنطلق الذي انطلق منه الرسول الأکرم (ص) في نشر الثقافة الإسلامية، وتعزيز أرکان تلک الحضارة التي امتدت في مشارق الأرض ومغاربها.
 
 

انتهای پیام