۱۴۰۲/۱۲/۲۶   12:34  زيارة:3846     التحدیثات


رمضان شهر التأمل الذاتى

 





لو تأمل کل إنسان في ذاته، واستقرأ حياته وأوضاعه، لوجد أن له أفکاراً يتبناها، وصفات نفسية وشخصية يحملها، وسلوکاً معيناً يمارسه، وأنه يعيش ضمن وضع وقالب يؤطر حياته الشخصية والاجتماعية.
والسؤال الذي يجب أن يطرحه الإنسان على نفسه هو: هل هو راضٍ عن الحالة التي يعيشها؟ وهل يعتبر نفسه ضمن الوضع الأفضل والأحسن؟ أم أنه يعاني من نقاط ضعف وثغرات؟ وهل أن ما يحمله من أفکار وصفات، وما يمارسه من سلوک، شيء مفروض عليه لا يمکن تغييره أو تجاوزه؟ أم أنه إنسان خلقه اللَّه حراً ذا إرادة واختيار؟
إن هذه التساؤلات کامنة في نفس الإنسان، وتبحث عن فرصة للمکاشفة والتأمل، يتيحها الإنسان لنفسه، لينفتح على ذاته، وليسبر غورها، ويلامس خباياها و أعماقها.
ورغم حاجة الإنسان إلى هذه المکاشفة والمراجعة، إلاّ أن أکثر الناس لا يقفون مع ذاتهم وقفة تأمل وانفتاح: لأسباب أهمها ما يلي:
أولاً: الغرق في أمور الحياة العملية، وهي کثيرة، ما بين ماله قيمة وأهمية، وما هو تافه وثانوي.
ثانياً: وهو الأهم، أن وقفة الإنسان مع ذاته، تتطلب منه اتخاذ قرارات تغييرية بشأن نفسه، وهذا ما يتهرب منه الکثيرون، کما يتهرب البعض من إجراء فحوصات طبية لجسده، خوفاً من اکتشاف أمراض تلزمه الامتناع عن بعض الأکلات، أو أخذ علاج معين.
دعوة إلى مکاشفة الذات: في تعاليم الإسلام دعوة مکثفة للانفتاح على الذات ومحاسبتها، بعيداً عن الاستغراق في الاهتمامات المادية، والانشغالات الحياتية، التي لا تنتهي. فقد ورد في الأثر: حاسبوا أنفسکم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا.
إن لحظات التأمل ومکاشفة الذات، تتيح للإنسان فرصة التعرف على أخطائه ونقاط ضعفه، وتدفعه لتطوير ذاته نحو الأفضل. فثمرة المحاسبة إصلاح النفس.
ولعل من أهداف قيام الليل، حيث ينتصب الإنسان خاشعاً أمام خالقه، وسط الظلام والسکون، إتاحة هذه الفرصة للإنسان.
وکذلک فإن عبادة الاعتکاف قد يکون من حکمتها هذا الغرض، والاعتکاف هو اللبث في المسجد بقصد العبادة، لثلاثة أيام أو أکثر مع الصوم، بحيث لا يخرج من المسجد إلا لحاجة مشروعة.
ولا يوجد شهر آخر يماثل شهر رمضان في هذه الخاصية، فهو خير شهر يقف فيه الإنسان مع نفسه متدبراً متأملاً، ففيه تتضاعف الحسنات، وتمحى السيئات کما روي عن رسول الله(ص)، وفي هذا الشهر فرصة عمر کبرى للحصول على مغفرة اللَّه فـ (إن الشقي من حرم غفران اللَّه في هذا الشهر العظيم) کما في الحديث النبوي، وقد يغفل البعض عن أن حصول تلک النتائج هو بحاجة إلى توجه وسعي.
فهذا الشهر ينبغي أن يشکل شهر مراجعة وتفکير وتأمل ومحاسبة للنفس، إذ حينما يمتنع الإنسان في هذا الشهر الکريم عن الطعام والشراب، وبقية الشهوات التي يلتصق بها يومياً، فإنه يکون قد تخلص من تلک الا نجذابات الأرضية، مما يعطيه فرصة للانتباه نحو ذاته ونفسه، وتأتي تلک الأجواء الروحية التي تحث عليها التعاليم الإسلامية، لتحسّن من فرص الاستفادة من هذا الشهر الکريم، فصلاة الليل مثلاً فرصة حقيقية للخلوة مع اللَّه، ولا ينبغي للمؤمن أن يفوت ساعات الليل في النوم، أو الارتباطات الاجتماعية، ويحرم نفسه من نصف ساعة ينفرد فيها مع ربه، بعد انتصاف الليل، وهو بداية وقت هذه الصلاة المستحبة العظيمة، وينبغي أن يخطط المؤمن لهذه الصلاة، حتى تؤتي بأفضل ثمارها ونتائجها، فيؤديها وهو في نشاط وقوة، وليس مجرد إسقاط واجب أو مستحب، بل يکون غرضه منها تحقيق أهدافها قال عز وجل: «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّکَ عَسَى أَن يَبْعَثَکَ رَبُّکَ مَقَامًا مَّحْمُودًا».
وقراءة القران الکريم والتي ورد الحث عليها في هذا الشهر المبارک، فهو شهر القرآن يقول تعالى: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» وفي الحديث الشريف: لکل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان. هذه القراءة إنما تخدم توجه الإنسان للانفتاح على ذاته، ومکاشفتها وتلمس ثغراتها وأخطائها، لکن ذلک مشروط بالتدبر في تلاوة القرآن، والاهتمام بفهم معانيه، والنظر في مدى الالتزام بأوامر القرآن ونواهيه.
إن البعض من الناس تعودوا أن يقرأوا ختمات من القرآن في شهر رمضان، وهي عادة جيدة، لکن ينبغي أن لا يکون الهدف طي الصفحات دون استفادة أو تمعن.
وإذا ما قرأ الإنسان آية من الذِّکْرِ الْحَکِيمِ، فينبغي أن يقف متسائلاً عن موقعه مما تقوله تلک الآية، ليفسح لها المجال للتأثير في قلبه، وللتغيير في سلوکه، ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: إن هذه القلوب تصدأ کما يصدأ الحديد.
قيل: يا رسول اللَّه فما جلاؤها؟
قال: تلاوة القرآن وذکر الموت.
وبذلک يعالج الإنسان أمراض نفسه وثغرات شخصيته فالقرآن «شِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ».
والأدعية المأثورة في شهر رمضان، کلها کنوز تربوية روحية، تبعث في الإنسان روح الجرأة على مصارحة ذاته، ومکاشفة نفسه، وتشحذ همته وإرادته، للتغير والتطوير والتوبة عن الذنوب والأخطاء. کما تؤکد في نفسه عظمة الخالق وخطورة المصير، وتجعله أمام حقائق وجوده وواقعه دون حجاب.
مجالات التأمل الذاتي:
إن حاجة الإنسان إلى التأمل والمراجعة لها أهمية قصوى في أبعاد ثلاثة:
البعد الأول: المراجعة الفکرية:
أن يراجع الإنسان أفکاره وقناعاته، ويتساءل عن مقدار الحق والصواب فيها، ولو أن الناس جميعاً راجعوا أفکارهم وانتماءاتهم، لربما استطاعوا أن يغيروا الأخطاء والانحرافات فيها، غير أن لسان حال الکثير من الناس «إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ» وليکن الإنسان حراً مع نفسه، قوياً في ذاته. إذا ما اکتشف أنه على خطأ ما، فلا يتهيب أو يتردد من التغيير والتصحيح.
البعد الثاني: المراجعة النفسية:
أن يراجع الإنسان الصفات النفسية التي تنطوي عليها شخصيته، فهل هو جبان أم شجاع؟ جريء أم متردد؟ حازم أم لين؟ صادق أم کاذب؟ صريح أم ملتو؟ کسول أم نشيط؟.. الخ. وليطرح الإنسان على نفسه عدداً من الأسئلة التي تکشف عن هذا البعد، مثل: ماذا سأفعل لو قصدني فقير في بيتي؟ ماذا سأفعل لو عبث الأطفال بأثاث المنزل؟ ماذا سأفعل لو حدث أمامي حادث سير؟ وکيف سيکون رد فعلي لو أسيء إلي في مکان عام؟ وکيف أقرر لو تعارضت مصلحتي الشخصية مع المبدأ أو المصلحة العامة؟
وتأتي أهمية هذه المراجعة في أن الإنسان ينبغي أن يقرر بعدها أن يصلح کل خلل نفسي عنده، وأن يعمل على تطوير نفسه، وتقديمها خطوات إلى الأمام.
البعد الثالث: المراجعة الاجتماعية والسلوکية:
أن يراجع الإنسان سلوکه وتصرفاته مع الآخرين، بدءاً من زوجته وأطفاله، وانتهاءً بخدمه وعماله، مروراً بأرحامه وأصدقائه، وسائر الناس، ممن يتعامل معهم أو يرتبط بهم.
وهذا الشهر الکريم هو خير مناسبة للارتقاء بالأداء الاجتماعي للمؤمن، ولتصفية کل الخلافات الاجتماعية، والعقد الشخصية، بين الإنسان والآخرين، وقد حثت الروايات الکثيرة على ذلک، إلى حد أن بعض الروايات تصرّح: بأن مغفرة اللَّه وعفوه عن الإنسان يبقى مجمداً فترة طويلة، حتى يزيل ما بينه وبين الآخرين من خلاف وتباعد، حتى وإن کانوا هم المخطئين في حقه، وحتى لو کان أحدهما ظالماً والآخر مظلوماً فإنهما معاً يتحملان إثم الهجران والقطيعة، إذ المظلوم منهما يتمکن من أن يبادر لأخيه بالتنازل وإزالة الخلاف، فما أوضحها من دعوة للمصالحة الاجتماعية، وما أعظمها من نتيجة لو تحققت خلال هذا الشهر الکريم، وما أکبر منزلة تلک القلوب التي تستطيع أن تتسامى على خلافاتها، وتتصالح في شهر القرآن، من أجل الحصول على غفران اللَّه؟ من هنا يحتاج الإنسان حقاً إلى قلب طاهر متزکي، ونية خير صادقة، فاسألوا اللَّه ربکم بنيات صادقة وقلوب طاهرة.
من جانب آخر فقد تسيطر على الإنسان بعض العادات والسلوکيات الخاطئة، ومهما کان عمقها في نفس الإنسان، والتصاقه بها، فإن الإرادة أقوى من العادة، وشهر رمضان أفضل فرصة لنفض وترک العادات السيئة الخاطئة.
فهنيئاً لمن يستفيد من أجواء هذا الشهر المبارک في المکاشفة مع ذاته، وإصلاح أخطائه وعيوبه، وسد النواقص والثغرات في شخصيته، فيراجع أفکاره وآراءه، ويدرسها بموضوعية، ويتأمل صفاته النفسية ليرى نقاط القوة والضعف فيها، ويتفحص سلوکه الاجتماعي، من أجل بناء علاقات أفضل مع المحيطين به.
وبهذه المراجعة والتراجع عن الأخطاء، يتحقق غفران اللَّه تعالى للإنسان في شهر رمضان، أما إذا بقي الإنسان مسترسلاً سادراً في وضعه وحالته، فإنه سيفوّت على نفسه هذه الفرصة العظيمة، وسينتهي شهر رمضان، دون أن يترک بصمات التأثير في شخصيته وسلوکه، وبالتالي فقد حرم نفسه من غفران اللَّه تعالى، وحقاً أن من لا يستفيد من هذه الفرصة ولا يستثمر هذه الأجواء الطيبة يکون شقياً.